فتياتٌ يبعن الطفولة على أرصفة التسول.. والفقر يغتال براءتهن

طيبة النواب – بغداد

فتياتٌ في عمر الزهور اجبرن التخلي عن حقائب المدرسة الملونة، واستبدالها بأكفٍ صغيرةٍ ممدودةٍ، تطلب العون والرحمة من المارة. لم يعد صدى ضحكاتهن يتردد في ساحات المدارس، بل حل محله صوتٌ خفيضٌ يرتجف خجلاً، يردد كلمات التسول التي لقنها لهن قسوة الواقع. إنها حكاية جيلٍ كاملٍ من الفتيات العراقيات اللواتي يواجهن خطر التسرب من التعليم، ليجدن أنفسهن في مواجهة مباشرة مع قسوة الشارع، حيث يتحول حلم المستقبل إلى كابوس يومي يطاردهن في كل زاوية. هذه ليست مجرد أرقامٍ في إحصائياتٍ جافة، بل هي مأساةٌ إنسانيةٌ تتكشف فصولها أمام أعيننا،

كنت أريد أن أكون طبيبة… لكنّ الشارع علمني البقاء

جلستُ القرفصاء بجانب نور (اسم مستعار)، 13 عامًا، على رصيفٍ متآكلٍ في أحد شوارع الكرادة المزدحمة. كانت ترتدي ثوبًا باهتًا، وشعرها الأشعث يغطيه وشاحٌ رث. في يدها الصغيرة، كانت تمسك بعلبة مناديل ورقية تعرضها على المارة، بينما كانت عيناها الواسعتان تتنقلان بين السيارات المارة ووجوه العابرين، مزيجٌ من الخوف والأمل يرتسم في مقلتيها.

سألتها: نور، لماذا لستِ في المدرسة الآن؟

نور (بصوتٍ خافتٍ يكاد يُسمع): “المدرسة… المدرسة بعيدة.”

أوضحت سؤالي: أقصد، لماذا لا تدرسين؟ ألم تكوني طالبة؟

نور: (تهز رأسها بالإيجاب، وعيناها تغرورقان بالدموع): “كنت… كنت في الصف الرابع. كنت أحب الرياضيات… وكنت أريد أن أصبح طبيبة.”

سألتها: وما الذي حدث؟ لماذا تركتِ المدرسة؟

نور: (تمسح دموعها بطرف وشاحها): “أبي… أبي مريض. لا يستطيع العمل. وأمي… أمي تبيع الشاي في السوق، لكن هذا لا يكفي. كان عليّ أن أساعد.”

سألتها: وكيف تساعدين؟

نور: (تشير إلى علبة المناديل): “أبيع المناديل… وأحيانًا… أتسول.” (تخفض رأسها بخجل).

سألتها: هل تجنين مالًا كافيًا؟

نور: (تهز رأسها نفيًا): “ليس كثيرًا… لكنه يكفي لشراء الخبز وبعض الدواء لأبي.”

سألتها: وماذا عن حلمك بأن تصبحي طبيبة؟

نور: (تتنهد بعمق): “لا أعرف… ربما… ربما عندما يتحسن أبي، أعود إلى المدرسة.” (نظرت إليّ بنظرةٍ يائسةٍ، وكأنها تسألني إن كان هذا ممكنًا حقًا).

سألتها: وماذا تعلمتِ من الشارع؟

نور: (بعد صمتٍ قصير): “الشارع علمني… علمني البقاء. علمني كيف أكون قوية… وكيف أتجاهل نظرات الناس.”

سألتها: هل تخافين؟

نور: (تومئ برأسها): “أحيانًا… خاصةً في الليل. لكنني أتعود.”

كلمة أخيرة؟

نور: (تنظر إلى الأرض): “أتمنى… أتمنى أن أعود إلى المدرسة. أتمنى أن أعيش مثل باقي الأطفال.”

انتهت المقابلة، وتركت نور جالسةً على الرصيف، تحمل في قلبها الصغير أحلامًا كبيرةً مهددة بالضياع، وفي عينيها حكاية جيلٍ كاملٍ يُدفع ثمن الفقر والقهر.

الدكتورة علياء الأنصاري، مديرة قسم حماية الطفل في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية العراقية تقول “إن ظاهرة تسرب الفتيات من المدارس وانخراطهن في التسول في بغداد، وفي عموم العراق، يعد ومؤشرٌ خطيرٌ على تفاقم الأزمة الإنسانية والاقتصادية التي تعصف بالبلاد. نحن في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ندرك تمام الإدراك حجم هذه المأساة، ونعمل جاهدين، بالتعاون مع الجهات الحكومية المعنية ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات الدولية، على اتخاذ إجراءاتٍ عاجلةٍ وحاسمةٍ لمعالجة هذه الظاهرة من جذورها.”

“تشمل هذه الإجراءات:

تكثيف جهود الرصد والمتابعة: من خلال فرقنا الميدانية المنتشرة في جميع أنحاء بغداد، نعمل على رصد حالات تسرب الفتيات من المدارس، وتحديد الأسباب الكامنة وراءها، وتقديم الدعم اللازم للفتيات وعائلاتهن.
توسيع نطاق برامج الحماية الاجتماعية: نعمل على زيادة عدد الأسر المشمولة ببرامج الحماية الاجتماعية، وتقديم مساعدات مالية عاجلة للأسر الأكثر فقراً، لتمكينها من تلبية احتياجات أطفالها الأساسية، وإبعادهم عن شبح التسول وعمالة الأطفال.
توفير فرص تعليمية بديلة: نسعى جاهدين لتوفير برامج تعليمية وتدريبية مجانية ومرنة للفتيات المتسربات من المدارس، تتناسب مع ظروفهن واحتياجاتهن، وتساعدهن على استكمال تعليمهن واكتساب المهارات اللازمة لدخول سوق العمل.
تفعيل القوانين والتشريعات: نعمل بالتنسيق مع الجهات القضائية والأمنية على تفعيل القوانين التي تجرم عمالة الأطفال والتسول، وتشديد العقوبات على المتورطين في استغلال الأطفال.
إطلاق حملات توعية وطنية: نخطط لإطلاق حملات توعية مكثفة في وسائل الإعلام والمدارس والمجتمعات المحلية، لتسليط الضوء على مخاطر التسول وعمالة الأطفال، وتغيير المفاهيم المجتمعية الخاطئة التي تبرر هذه الظاهرة.”
“إننا نؤمن بأن حماية أطفالنا، وضمان حصولهم على التعليم والرعاية الصحية والحياة الكريمة، هي مسؤوليةٌ جماعيةٌ تقع على عاتق الجميع: الحكومة، والمجتمع المدني، والأسر، والأفراد. وندعو جميع الأطراف المعنية إلى التكاتف والتعاون من أجل إنقاذ فتياتنا من براثن الفقر والتسول”

ليست قصة نور سوى غيضٍ من فيض، ووجهٍ واحدٍ من وجوهٍ كثيرةٍ لمعاناةٍ صامتةٍ تخنق أحلام فتيات بغداد. فالأرقام الرسمية، وإن كانت لا تعكس الواقع المرير بكل تفاصيله، ترسم صورةً قاتمةً للوضع. فبحسب وزارة التخطيط العراقية، ارتفعت نسبة الفقر في العراق إلى 31.7% في عام 2022، مع تسجيل محافظة بغداد لواحدة من أعلى النسب بين المحافظات.

هذا الفقر المدقع يدفع العائلات إلى حافة اليأس، ويجعل من تعليم الفتيات ترفًا لا يمكن تحمله. ووفقًا لتقديرات اليونيسف (UNICEF)، فإن 47% من الأطفال في العراق يعيشون في حالة حرمان متعدد الأبعاد، ويشمل ذلك الحرمان من التعليم. ورغم عدم وجود إحصائيات دقيقة ومحدثة خاصة بتسرب الفتيات من المدارس في بغداد بسبب عملهن في التسول، إلا أن دراسات ميدانية غير رسمية أجرتها منظمات مجتمع مدني محلية تشير إلى أن النسبة قد تتجاوز 40% في بعض المناطق الفقيرة والمهمشة في العاصمة، مثل مدينة الصدر والشعلة.

وتشير تقارير وزارة العمل والشؤون الاجتماعية إلى أن عدد الأطفال العاملين في العراق، بما في ذلك المتسولين، قد يصل إلى مئات الآلاف، وأن غالبيتهم العظمى من الإناث.
أكثر من ذلك فأن 80% من الاطفال المتسربين من الدراسة يتجهون الى التسول بحسب تقارير غير حكومية

هذه الأرقام ليست مجرد إحصائياتٍ جافة، بل هي صرخةُ استغاثةٍ من فتياتٍ يُحرمن من حقهن في التعليم والحياة الكريمة، ويُزج بهن في دوامة الفقر والاستغلال. إنها أرقامٌ تدق ناقوس الخطر، وتستدعي تحركًا عاجلاً وفعالاً لإنقاذ مستقبل جيلٍ كاملٍ من فتيات العراق.”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.